
في بلد أنهكته الحرب وصادرت اضطراباته مستقبل جيل كامل، تحوّل البحث عن فرصة رزق — ولو عبر شاشة هاتف — إلى باب أمل لكثير من الشباب. غير أن هذا الباب قد يقود أحياناً إلى فخاخ رقمية محكمة، تُدار بعناية لاستنزاف مدخرات البسطاء الحالمين بفرصة للخلاص.
هذا التحقيق أعده بكيل عفيف لـ”يمن ديلي نيوز”، ويكشف خيوط منصة استثمار وهمية أوهمت مئات اليمنيين بأرباح خيالية، قبل أن تُسقطهم في مصيدة مالية بلا مخرج.
يمثل الشاب عبده علي محمد (اسم مستعار) من محافظة أبين نموذجًا لمعاناة آلاف الشباب اليمنيين الباحثين عن فرصة نجاة وسط حرب أنهكت البلاد ودفعت كثيرين للبحث عن مصادر دخل بديلة، ولو عبر العالم الرقمي المجهول.
يحكي محمد قصته قائلًا: “غادرت منطقتي قبل عامين متوجهًا إلى مأرب بعد أن تعرضت للاعتقال في عدن لمدة سبعة أشهر، ما حرمني من استكمال دراستي الجامعية بكلية الهندسة بجامعة عدن التي رفضت اعتباره ظرفًا قهريًا”.
اضطر محمد للعمل كفني كهرباء بأجر يومي لتأمين احتياجات أسرته، قبل أن يسمع من أصدقائه عن منصات استثمار بالعملات الرقمية تدر أرباحًا كبيرة، فقرر التجربة.
بداية الفخ
أرسل له أحد معارفه رابط منصة تحمل اسم YLF_AI. سجّل محمد ودفع مبلغ الاشتراك عبر وسيط يمتلك محفظة إلكترونية مقابل دفع نقدي بالريال اليمني. وسرعان ما بدأ يتلقى إشعارات يومية بأرباح تعادل ما استثمره.
لكنه فوجئ بطلب المنصة ترقية حسابه عبر دعوة خمسة أشخاص جدد. وعندما حاول سحب أرباحه، رفض النظام تنفيذ الطلب دون استيفاء شرط “إحالة المشتركين الجدد”.
يقول محمد: “أدركنا حينها أننا وقعنا في فخ ابتزاز.. إما أن نساهم في خداع آخرين أو نخسر أموالنا”.
خيوط وهمية وأرقام براقة
تعرض المنصة نفسها كمؤسسة مالية تعتمد الذكاء الاصطناعي وتدير أصولًا قيمتها 16.8 مليار دولار عبر 42 بورصة عالمية. لكن هذه الادعاءات جاءت بلا أي أدلة موثقة أو بيانات مالية رسمية، سوى لغة دعائية ومصطلحات تقنية لا معنى لها.
وتروج وثيقة غير مختومة تشير لامتلاك الشركة 50 مليون سهم دون توضيح قيمة السهم أو نوع العملة أو الجهة المُصدرة.
تدفقات مالية مشبوهة
جميع التعاملات تُنفذ عبر محافظ إلكترونية دون عقود أو إثباتات قانونية. ويضطر المشتركون في اليمن لاستخدام وسطاء إما عبر مواقع محلية أو أشخاص يمتلكون محافظ رقمية، ما يجعل أي مطالبة قانونية شبه مستحيلة.
بل الأسوأ، يجد المستثمر نفسه تحت تهديد أخلاقي وقانوني؛ فإما الترويج لعملية نصب أو خسارة أمواله.
مزاعم تسجيل أمريكي.. وكشف التلاعب
نشرت المنصة وثائق قالت إنها صادرة عن وزارة خارجية ولاية كولورادو الأمريكية تظهر تسجيل شركة باسم YLF-AI HOLDINGS LLC. لكن تحقيق “يمن ديلي نيوز” عبر الموقع الرسمي أظهر الحقيقة:
لا وجود لشركة بهذا الاسم.
رقم التعريف الموجود يخص شركة أخرى باسم QT HOLDINGS LLC.
النسخة الحكومية تظهر تاريخًا وتفاصيل تختلف عن الوثائق التي نشرتها المنصة.
رجل الأعمال الأمريكي اليمني محمد البعداني أكد لنا أن الوثائق التي نشرتها المنصة تم التلاعب بها، وأن الجهة الرسمية لا يمكن أن تمنح نفس رقم التعريف لشركتين مختلفتين.
الشركة الحقيقية.. واجهة خفية
التحقق من وثائق QT HOLDINGS LLC كشف:
تاريخ التأسيس: 29 أكتوبر 2023
الوكيل: Quoc Nguyen
شريك آخر: Thu Tran
العنوان المسجل في ولاية كولورادو يطابق عنوان مطعم فيتنامي تديره Tran
ما يثير شبهة وجود شبكة تستخدم كيانًا قانونيًا أمريكيًا كغطاء لعمليات نصب عابرة للحدود.
تفسير قانوني
يشرح المحامي عبدالملك معوضة أن الشركات ذات المسؤولية المحدودة توفر حماية لمالكيها، لكنها لا تعفيهم من الملاحقة عند ارتكاب جرائم احتيال، مؤكداً أن التزوير والنصب عبر الإنترنت جرائم فيدرالية تصل عقوبتها إلى 20 عامًا سجنًا، إضافة إلى غرامات ومصادرة أصول وتعاون دولي لملاحقة الجناة.
تقدم منصة YLF_AI نفسها كفرصة ثورية للاستثمار، لكنها في الحقيقة مصيدة مالية معقدة تستهدف مدخرات اليمنيين الباحثين عن متنفس وسط ضيق العيش.
وبين وثائق مزورة ومحافظ إلكترونية بلا ضمانات وشروط إحالة قسرية، تتجلى صورة عملية نصب دولية محكمة.
محمد وغيره كثيرون وقعوا ضحايا حلم الثروة السريعة.. ليكتشفوا أن ما ظنوه استثمارًا لم يكن سوى فخ رقمي محكم لاصطياد أحلامهم ومدخراتهم.